تُعد الطفولة، ولا سيما الطفولة المبكرة، المرحلة الأساسية في التشكيل النفسي والعصبي للفرد. ورغم شيوع الاعتقاد بأن الأطفال "ينسون بسرعة"، إلا أن الأدلة العلمية الحديثة تؤكد أن تجارب الطفولة المبكرة، حتى وإن لم تُسترجع بشكل واعٍ، لا تختفي، بل تُخزَن في بعض أنظمة الذاكرة وتترك بصمتها العميقة على جوانبنا النفسية والسلوكية في مراحل لاحقة من حياتنا.

وهنا يبرز سؤالي الجوهري:

لماذا نظن أن ليس لدينا خبرات سيئة مررنا بها في طفولتنا؟
ولماذا نعتقد أن تلك اللحظات المؤلمة تلاشت وسط فوضى الحياة اليومية؟

هذه النظرة تفتقر إلى الدقة العلمية، فقد تناولت الدراسات ظاهرة تُعرف بـ نسيان الطفولة المبكرة" (Infantile Amnesia)، وهي تشير إلى عدم قدرتنا نحن البالغين على استرجاع ذكرياتنا الطفولية خصوصاً المبكرة منها.
ويرجع ذلك إلى عدم اكتمال نمو مناطق الدماغ المسؤولة عن الذاكرة الصريحة، مثل الحُصين وقشرة الفص الجبهي في خلال السنوات الأولى.

كما أن قصور النمو اللغوي لدينا في تلك المرحلة يعيق من ترميز خبراتنا بشكل يسهل سرده وتنظيمه، مما يمنعنا من تخزينها في الذاكرة الطويلة المدى، وبطريقة تمكنا من استرجاعها لاحقًا.

لكن هذا لا يعني أن التجارب التي مررنا بها قد ضاعت كما نتصور.
بل هي محفورة في أجسادنا، وتنعكس في مشاعرنا وسلوكياتنا ومزاجنا اليومي.
نحملها في ملامح انفعالاتنا، في قلقنا وتصرفاتنا الغير مبررة، في حساسيتنا المفرطة وفي جمودنا العاطفي، وفي صعوبات تكيفنا، وفي عيشنا للحياة دون أن نفهم أنفسنا.

وهنا، نحتاج إلى نَفس عميق لمواجهة حقيقة مؤلمة ضرورية:

نعم، ذلك الطفل الذي لم نعد نراه، والذي تم تجاهله وكُتم صوته، ما زال يعيش في داخلنا... في حاضرنا.
لم يكبر ذلك الطفل بمجرد مرور الزمن، ولم يتشافى لأن الحياة مضت.
بل على العكس، ما زال عالقاً في ألمه ومتمسكا باحتياجاته الأساسية المُهملة والمُؤجلة.

وبمجرد الاعتراف بوجود هذا الطفل داخلنا نفتح لأنفسنا باب الشفاء، ونحد من إسقاط مشاعرنا وردود أفعالنا الغير مفهومة على الآخرين، ونفهم أنفسنا بصدق، ونتوقف عن محاسبة العالم عن آلم لم يتسببوا فيه، ونبدأ في رحلة التعاطف مع الذات وترميمها خطوة بخطوة.