٢٦ ربيع الآخر ١٤٤٧ هـ

المشاكل النفسيّة

المشاكل السلوكيّة

وراء كل عرض قهري... طفل يبحث عن الأمان

تخيل أنك عالق في سجن من المعاناة، محاصر بفكرة قهرية لا تفارقك، تتسلل إلى وعيك في كل لحظة، تسيطر عليك وتستنزف طاقتك. تحاول مقاومتها بطقوس متكررة، باحثاً من خلالها عن بعض الراحة، لكنك تجد نفسك تدور في حلقة مغلقة من القلق والتوتر. وكأنك داخل متاهة لا مخرج منها، أو في عالم مظلم لا نافذة فيه.

هذا تماما ما قد يعيشه الطفل المصاب باضطراب الوسواس القهري. إذ تتحول الأفكار والسلوكيات القهرية إلى قيد نفسي خانق، يمنعه من اللعب والاستمتاع بالحياة، ويسرق منه عفويته وطفولته.

وعلى الأرجح يبدو الأمر مفاجئ للأغلبية، لكن نعم حتى الأطفال معرضون للإصابة باضطراب الوسواس القهري، ليس فقط في صورته التقليدية المتعارف عليها المرتبطة بالنظافة. فقد تُعبر الأعراض عن نفسها بصورة مختلفة لدى كل طفل، فقد يكون هناك خوف مبالغ من الأمراض، أو الحاجة المفرطة لترتيب والتنظيم، أو أفكار عدوانية أو جنسية مزعجة لا يستطيع الطفل فهمها أو مشاركتها، فيجد نفسه غريقاً في صراع داخلي.

ولان غالبا ما تتقاطع أعراض الاضطراب مع السلوكيات الطبيعية في مراحل الطفولة المبكرة: مثل التعلق بالروتين، أو الغضب عند تغيره، أو العناد، يقع اللبس بين ما هو سلوك نمائي طبيعي، وبين ما هو مؤشراً لحاجة حقيقية إلى الدعم المختص، قد يكون من الصعب على الوالدين التعامل مع المواقف بطريقة سليمه. خصوصًا أن مهارات التعامل الفعّال غالباً ما تكون غير مكتسبة مما يساهم في زيادة المعاناة والألم لدى الطفل بدل من تخفيفها.

ومن هنا، تبرز أهمية توعية الوالدين بدورهم الحيوي؛ فالعلاج لا يقتصر فقط على الجلسات النفسية، بل يمتد ليشمل الدعم المستمر داخل الأسرة. ونظراً لأن كثير من الوالدين لا يعلمون الطريقة الصحية لتقديم هذا الدعم، تظهر الحاجة إلى مناقشة بعض الأساليب التي يمكن للوالدين إستخدامها.

-فصل المشكلة عن هوية الطفل: أعراض الوسواس القهري مرهقة ومثيرة للغضب، لكن من الضروري أن يتذكر الوالدين أن الوسواس القهري هو عبارة عن عدو خارجي يحاول السيطرة على الطفل. عندما يدرك الوالدين ذلك يمكنهم مساعدة الطفل على أن يرى الأعراض على انها أشياء خارجية يمكن السيطرة عليها ومقاومتها، وأنها ليست جزء من هويته. فبدلاً من اللوم والنقد، يتوجب على الوالدين مساعدة الطفل على تبني فهم جديد وهو " هذه الأفكار ليست أنت، إنها مجرد أفكار... يمكنك مقاومتها".

- التركيز على قدرات الطفل: عادتا ما يفقد الطفل الإحساس بالتحكم حيث إن الأفكار تسيطر عليه. يتطلب من الوالدين مساعدة الطفل على تذكّر المواقف التي يشعر فيها بالقوة وقدرته على المقاومة أو عندما تغلب على الشعور بالقلق والخوف أو عندما استطاع تأجيل الاستجابة وممارسة السلوكيات القهرية.

- التركيز على الأهداف البعيد، وليس الراحة والحل المؤقت: مقاومة الأعرض مؤلمة ومرهقة في اللحظة الحالية، يحتاج الوالدين التذكر بأن الطفل يجب أن يواجه ويقاوم ليس فقط من أجل اللحظة الحالية، بل من أجل أن يستعيد حريته وهدوءه. دور الوالدين تشجيع الطفل على رؤية الهدف البعيد رغم الشعور بالقلق والتوتر، حيث أن تحمل القلق والتوتر المؤقت يساعد في الوصول إلى التعافي.

التركيز على المؤشرات الجسدية: غالبًا ما يُركز الوالدان على الأفكار المزعجة أو السلوكيات القهرية الظاهرة، مثل غسل اليدين المتكرر أو التحقق القهري، باعتبارها أنها الجوهر الأساسي للمعاناة. لكن الحقيقة أن هذه التصرفات ليست سوى "قمة الجبل الجليدي"، إذ توجد مؤشرات جسدية داخلية أسفل السطح، داخل مستويات عميقه جدا مثل مشاعر جسدية غير مريحة، أو توتر عضلي، أو انزعاج داخلي غامض لا يستطيع الطفل التعرف عليه ووصفه بدقة. هذه المؤشرات الجسدية قد تكون المحرك الأساسي وراء السلوكيات القهرية، وهي التي تدفع الطفل للتصرف بطريقة معينة ليُخفف ذلك الشعور، لا لينفذ فكرة بحد ذاتها.

 -توفير مساحة أمنة للتعبير عن المشاعر: على الأرجح أن الطفل الذي لديه بعض من أعراض الوسواس القهري يعاني من مشاعر مختلطة ومكثفة من القلق، الخوف، الإحباط، الخجل، الشعور بالذنب. وغالبا لا يجد الكلمات المناسبة للتعبير عنها، أو الخوف من مشاركتها مع الوالدين حتى لا يشعر بالرفض أو بالغرابة. كبت الطفل لهذه المشاعر يساعد على تغذية هذه الأفكار والسلوكيات القهرية. أما حين يشارك الطفل مشاعره ويشعر بأنها مفهومة ومقبولة، فإن عبء "المقاومة" ينخفض، ويزداد الشعور بالأمان.

ختاماً، يجب على الوالدين أن يدركوا أن الأفكار والسلوكيات القهرية قد تكون محاولة يائسة لاحتواء قلق داخلي ليس على الطفل أن يواجه بمفرده. ومع وجود بيئة آمنة، تواصل صادق، واستراتيجيات دعم نفسي يمكن للطفل أن يستعيد حريته، وأن يعيش طفولته مره أخرى.

لنتذكر دائما أن خلف كل عرض قهري، هناك طفل يحاول أن يطمئن... طفل لا يحتاج إلى تصحيح، بل يحتاج إلى من يراه، ويفهمه، ويرافقه نحو الأمان.